صدر كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" (The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism) في عام 2007، ليصبح أحد أكثر الكتب تأثيرًا وإثارة للجدل في دراسات الاقتصاد السياسي المعاصر. تقدم فيه نعومي كلاين أطروحة جريئة ومقلقة: إن القوى الرأسمالية النيوليبرالية تستغل بشكل ممنهج الصدمات الكبرى - كالكوارث الطبيعية، الحروب، الهجمات الإرهابية، والأزمات الاقتصادية - لفرض سياسات اقتصادية راديكالية تخدم مصالح الشركات الكبرى والنخب الثرية، على حساب الصالح العام والديمقراطية.
تصف كلاين هذه الاستراتيجية بـ "عقيدة الصدمة"، وهي تعتمد على إверاع المجتمعات في حالة من الارتباك والصدمة الجماعية، مما يشل قدرتها على المقاومة والتفكير المنطقي، فتصبح مهيأة لتقبل إجراءات اقتصادية مؤلمة لم تكن لتقبل بها في الظروف الطبيعية، مثل الخصخصة الشاملة، تحرير الأسواق، وإلغاء الدعم الحكومي.
الفكرة المركزية: العلاج بالصدمة من الاقتصاد إلى السياسة
تستعير كلاين استعارة "العلاج بالصدمة" من مجال الطب النفسي، وتحديدًا من تجارب الطبيب النفسي إيوين كاميرون في الخمسينيات، الذي استخدم صدمات كهربائية قوية لمحو ذاكرة المرضى وإعادة بناء شخصياتهم. وترى كلاين أن الاقتصادي ميلتون فريدمان، الأب الروحي لمدرسة شيكاغو الاقتصادية، طبق المنطق ذاته على الدول. فكما أن الصدمة الكهربائية تمحو ذاكرة المريض، فإن الصدمة الاجتماعية (حرب، انقلاب، كارثة) تمحو القناعات السياسية والاقتصادية الراسخة لدى الشعوب، وتخلق "صفحة بيضاء" يمكن لـ "مهندسي" السوق الحرة أن يكتبوا عليها سياساتهم الجديدة دون مقاومة تذكر.
ينقسم الكتاب إلى سبعة أجزاء رئيسية، يتناول كل جزء منها مرحلة أو جانبًا من جوانب تطبيق "عقيدة الصدمة" في مختلف أنحاء العالم.
الجزء الأول: صفحتان بيضاويتان: البحث والولادة
الفصل الأول: الطبيب الصامت: يبدأ الكتاب بقصة الدكتور إيوين كاميرون وتجاربه الممولة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) حول العلاج بالصدمة الكهربائية. تربط كلاين بين هذه التجارب الوحشية وبين المنهجية التي سيتبعها الاقتصاديون لاحقًا لإعادة هيكلة المجتمعات. الفكرة هي أن الصدمة العنيفة هي أداة "لتطهير" الوعي وخلق حالة من التيه والارتباك تسمح بفرض نظام جديد.
الفصل الثاني: الصفحة البيضاء الأخرى: تنتقل كلاين إلى ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو للاقتصاد. تشرح كيف أن فريدمان رأى في الأزمات "فرصًا" لتطبيق نظرياته حول السوق الحرة المطلقة. الأزمة تخلق الحاجة للتغيير، والصدمة تجعل الناس يتقبلون هذا التغيير الجذري الذي كان مرفوضًا في السابق.
"فقط الأزمة - الحقيقية أو المتصورة - هي ما ينتج تغييرًا حقيقيًا. عندما تحدث تلك الأزمة، فإن الإجراءات التي يتم اتخاذها تعتمد على الأفكار الكامنة حولها." - ميلتون فريدمان.
هذا الاقتباس هو حجر الزاوية في أطروحة كلاين. فريدمان نفسه يعترف بأن الأفكار التي تبدو متطرفة تنتظر اللحظة المناسبة (الأزمة) لتتحول إلى سياسات واقعية.
الجزء الثاني: أول اختبار: ولادة حركات العنف
الفصول 3-5: يركز هذا الجزء على "المختبر" الأول لتطبيق عقيدة الصدمة: تشيلي بعد انقلاب الجنرال أوغوستو بينوشيه عام 1973 على الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور أليندي. تشرح كلاين كيف أن الانقلاب العسكري الوحشي خلق حالة الصدمة والرعب اللازمة لـ "فتيان شيكاغو" (مجموعة من الاقتصاديين التشيليين الذين درسوا على يد فريدمان) لتطبيق روشتتهم الاقتصادية: خصخصة، تحرير التجارة، ورفع القيود عن رأس المال.
مثال للفكرة: قبل الانقلاب، كانت هناك مقاومة شعبية واسعة لأي سياسات نيوليبرالية. لكن بعد الصدمة المزدوجة (الانقلاب العسكري والقمع الدموي)، تم تمرير هذه السياسات بسهولة بينما كان المواطنون في حالة من الخوف والشلل. لقد كانت الصدمة السياسية غطاءً للصدمة الاقتصادية.
الجزء الثالث: ديمقراطيات تحت رحمة الأزمات
الفصول 6-8: تتوسع كلاين لتشمل دولًا أخرى. تتناول "العلاج بالصدمة" الذي طبقته مارغريت تاتشر في بريطانيا مستغلة حرب الفوكلاند لإضعاف النقابات وتمرير سياسات الخصخصة. كما تتناول بوليفيا في الثمانينيات، حيث تم استغلال أزمة الديون والتضخم المفرط لفرض برنامج تقشف قاسٍ.
"لم يكن هناك بديل." (There is no alternative) - مارغريت تاتشر.
كانت هذه العبارة شعار تاتشر لتبرير سياساتها النيوليبرالية القاسية. تهدف هذه الرسالة إلى إقناع الجمهور بأن الخضوع لمنطق السوق الحرة ليس خيارًا، بل هو ضرورة حتمية لا مفر منها، مما يضعف أي محاولة للمقاومة أو التفكير في حلول بديلة.
الجزء الرابع: ضياع الصفقة: كيف تم إفساد السلام
الفصول 9-11: تنتقل كلاين إلى نهاية الحرب الباردة. تحلل كيف تم تطبيق "العلاج بالصدمة" في بولندا وروسيا بعد انهيار الشيوعية. في روسيا، استخدم بوريس يلتسين أزمة عام 1993 وقصف البرلمان لخلق الصدمة اللازمة لتمرير الخصخصة السريعة التي أدت إلى ظهور طبقة "الأوليغارشية" ونهب ثروات الدولة. كما تتناول كيف أن المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، بقيادة نيلسون مانديلا، تخلى عن برنامجه الاشتراكي (ميثاق الحرية) وتبنى سياسات نيوليبرالية تحت ضغط صندوق النقد الدولي والأسواق المالية العالمية.
الجزء الخامس: زمن الصدمات المربكة: صعود رأسمالية الكوارث
الفصول 12-14: هذا هو قلب الكتاب، حيث تصيغ كلاين مصطلح "رأسمالية الكوارث". تشرح كيف أن أحداث 11 سبتمبر 2001 لم تكن مجرد مأساة إنسانية، بل كانت فرصة ذهبية لإنشاء "مجمع صناعي أمني للكوارث". ازدهرت شركات الأمن الخاصة، والمراقبة، والخدمات العسكرية، وحققت أرباحًا طائلة من "الحرب على الإرهاب".
حرب العراق. لم تكن الحرب مجرد عملية عسكرية، بل كانت مشروعًا اقتصاديًا ضخمًا. قبل أن يجف غبار القنابل، تم تسليم عقود إعادة الإعمار والبنية التحتية والخدمات النفطية لشركات أمريكية كبرى مثل هاليبرتون وبيكتل، وتم فرض قوانين اقتصادية نيوليبرالية متطرفة على العراق، مثل قانون الخصخصة الشاملة وتسطيح الضرائب. لقد كانت صدمة الحرب هي الأداة لفرض "العلاج" الاقتصادي.
الجزء السادس: عراق على الورق: محو أمة
الفصول 15-18: تتعمق كلاين في الحالة العراقية باعتبارها المثال الأكثر وحشية ووضوحًا لعقيدة الصدمة. تشرح كيف حاول بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، تحويل البلاد إلى يوتوبيا للسوق الحرة، متجاهلاً تمامًا تاريخ وثقافة واحتياجات الشعب العراقي. أدت هذه السياسات إلى تفكيك الدولة، تفشي البطالة، وتأجيج العنف الطائفي، مما خلق كارثة مستمرة بدلاً من إعادة الإعمار الموعودة.
الجزء السابع: التحركات المضادة: القوة في مواجهة الصدمة
الفصول 19-21 والخاتمة: تختتم كلاين بنبرة أكثر تفاؤلاً. ترصد حركات المقاومة الشعبية التي بدأت تنشأ في أمريكا اللاتينية وآسيا ضد سياسات الصدمة. تتحدث عن المجتمعات التي بدأت "تتعافى من الصدمة" وتستعيد قدرتها على تنظيم نفسها والمطالبة بحلول اقتصادية تخدم مصالحها، مثل الحركات الشعبية في الأرجنتين بعد الانهيار الاقتصادي عام 2001، التي استعادت المصانع المهجورة وأدارتها بشكل تعاوني.
أثار كتاب "عقيدة الصدمة" نقاشًا عالميًا واسعًا، وتلقى ردود فعل متباينة بشدة.
الآراء المؤيدة:
كشف المستور: يرى المؤيدون أن الكتاب يقدم تفسيرًا قويًا ومقنعًا للأحداث السياسية والاقتصادية الكبرى في العقود الأخيرة. لقد كشف عن النمط الممنهج الذي تستخدمه القوى الكبرى لفرض أجندتها الاقتصادية.
ربط النقاط: أشاد الكثيرون بقدرة كلاين على ربط أحداث تبدو غير متصلة (انقلاب تشيلي، حرب العراق، إعصار كاترينا) ضمن إطار تحليلي واحد متماسك.
صوت المقهورين: يعتبر الكتاب صوتًا قويًا للمجتمعات التي عانت من هذه السياسات، ويوثق قصصًا غالبًا ما يتم تجاهلها في السرديات الرسمية.
الآراء المعارضة (الانتقادات):
نظرية مؤامرة: اتهمها نقاد بارزون، مثل الاقتصادي تايلر كوين، بتقديم نظرية مؤامرة واسعة. يجادلون بأن كلاين تفترض وجود نية مبيتة وتنسيق دقيق حيث لا يوجد سوى مجموعة من السياسات المتفرقة التي تم تطبيقها استجابة لأزمات حقيقية.
تبسيط مفرط: يرى البعض أنها تبسط العلاقة بين الأفكار الاقتصادية والأحداث السياسية. فمثلاً، يجادل منتقدوها بأن السياسات النيوليبرالية لم تفرض دائمًا بالقوة والصدمة، بل تم تبنيها أحيانًا من قبل حكومات منتخبة ديمقراطيًا لأنها كانت ترى فيها الحل الأفضل لمشاكلها الاقتصادية.
انتقائية في الأدلة: يتهمها البعض بانتقاء الأمثلة التي تدعم نظريتها وتجاهل الحالات التي لا تتوافق معها. على سبيل المثال، حالات النمو الاقتصادي التي تحققت في بعض الدول بعد تبني سياسات السوق الحرة.
في الختام، يظل "عقيدة الصدمة" عملاً فكريًا بالغ الأهمية، سواء اتفقت معه أم اختلفت. إنه ليس مجرد كتاب في الاقتصاد، بل هو تحقيق صحفي وتحليل سياسي وتاريخي يقدم منظورًا مختلفًا وجذريًا لفهم الطريقة التي يعمل بها العالم، وكيف تتشابك السلطة والثروة والكوارث لتشكيل مصائر الأمم.
تعليقات
إرسال تعليق