شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة ابن غالب اللخمي الإربلي، الوزير العالم والأديب الشاعر. ولد بقلعة إربل، ونشأ في بيت رياسة وفضل وعلم. بدأ التحصيل العلمي على يد والده وعمه، ودفعه أبوه إلى شيوخ إربل والوافدين عليها، فقرأ القرآن الكريم على قراء عصره، وسمع الحديث الشريف من أعلام المحدثين في أيامه، ودرس علوم الحديث وأسماء رجاله، وأَلَمَّ بكل ما يتعلق به، ومال إلى علوم اللغة والأدب، فاشتغل بالنحو والعروض والبلاغة، وحفظ أشعار العرب وأخبارهم وأمثالهم وأيامهم ووقائعهم، وأتقن علم الديوان وضبط قوانينه على الأوضاع المعتبرة آنذاك، حتى صار إماماً في الحديث وعالماً في اللغة والأدب، وأشهر رجال إربل وفضلائها.
عمل ابن المستوفي في الدولة، فأشرف على دار الضيافة في إربل، ثم خلف والده وعمه صفي الدين في الاستيفاء، والاستيفاء في ممالك تلك الأيام وظيفة جليلة، وصاحبها ذو منزلة عظيمة، يأتي بعد الوزير في المكانة والأهمية، وبهذا العمل اشتهر على الرغم من توليه الوزارة لصاحب إربل مظفر الدين كوكبري، صهر صلاح الدين الأيوبي، وقد أتقن عمله في الاستيفاء والوزارة، وحُمدت سيرته فيهما، فظل في الوزارة إلى أن توفي كوكبري، وصار أمر إربل إلى الخليفة العباسي بوصية من كوكبري، فأرسل الخليفة نائباً عنه إلى إربل، وأبعد ابن المستوفي عن الوزارة، فقعد في بيته يفيد ويؤلف، حتى اجتاح المغول مدينة إربل، فاعتصم ابن المستوفي مع من اعتصم في قلعتها. وبعد رحيل المغول عن إربل ارتحل إلى الموصل، وأقام فيها في حرمة وافرة وتكريم ورعاية من حكامها، منقطعا إلى العلم وشؤونه إلى أن توفي.
كان شرف الدين بن المستوفي من محاسن زمانه، رئيسا معظماً، صاحب همة عالية، كثير التواضع، واسع الكرم ممدحاً، ولم يكن في آخر الوقت بإربل مثله في فضائله، نهض بأعباء الدولة وأمور العلم والأدب، ولم يصل إلى إربل فاضل إلا بادر إلى زيارته وإكرامه، واعتنى بأهل الأدب، فقد كانت سوقهم لديه رائجة، وكان بيته مجمع الفضلاء ومقصد ذوي الحاجات، يذاكرهم في العلم ويطارحهم في الشعر ويسد خلتهم ويجبر كسرهم، وكان إلى جانب علمه أديباً كبيراً، له يد طولى في الشعر والنثر، وبصيرة ثاقبة في نقدهما، واشتغل بالتاريخ، فجمع لإربل تاريخاً، ذكر فيه تاريخ المدينة وأحوالها ومن دخلها من العلماء والأدباء والأعيان، وتخرج به خلق كثير في فنون العلم المختلفة، منهم أعلام كابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان»، وابن الشعار صاحب «عقود الجمان».
مال ابن المستوفي في أدبه نحو الصنعة البديعية، وخاصة في رسائله التي أنشأها في موضوعات مختلفة، وتبادلها مع أعلام عصره من العلماء والأدباء، فأكثر فيها من الاقتباس والتضمين والإشارات التراثية، وأثقله بفنون البديع، وخاصة الجناس والسجع والموازنة بين الجمل، وأغرم باستخدام الألفاظ الغريبة التي تظهر معرفته باللغة وأسرارها، فاحتاج فهمهما وإدراك مرامي صاحبها المعنوية والأسلوبية إلى ثقافة لغوية كبيرة ومعرفة بطرائق العرب في بناء عباراتهم، وإلمام بضروب الصنعة البديعية.
أما شعره فقد تضمن موضوعات مختلفة مثل المدح والرثاء والوصف والغزل، وغلبت عليه الإخوانيات، لأنه كان يتبادله مع أقرانه من الأدباء والعلماء، واقترب فيه من شعر العلماء المثقل بثقافتهم، واستخدم فيه فنون الصنعة البديعية، وحرص على إيراد النكت المعنوية والتشبيهات المبتكرة وفق المفهوم السائد للشعر في أيامه.
ترك ابن المستوفي مصنفات مختلفة، أهمها كتابه المعروف بتاريخ إربل، وقد سماه «نباهة البلد الخامل بمن ورد عليه في الأماثل»، قيل: إنه في أربعة مجلدات، وصلنا نصفه، فحُقق وطُبع، وهو مصدر مهم لمعرفة أحوال مدينة إربل وما حولها وأعلامها، لأنه تفرّد بذكر أشياء لم ترد إلا فيه. وله كتاب «إهداء الأمراء في تواريخ الشعراء»، ذكر فيه شعراء إربل والشعراء الذين زاروها، وكتاب «النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام» في عشرة مجلدات، وكتاب «إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل» في مجلدين، شرح فيه الأبيات التي استشهد فيها الزمخشري في كتابه «المفصل»، وكتاب «سر الصنعة» في الأدب، وكتاب «أبو قماش»، جمع فيه آداباً ونوادر وأخباراً طريفة، وله ديوان شعر، وقد جُمع قسم من رسائله وطُبع.
ومن شعره:
يا مَنْ تَغَيَّرتِ الدُّنيا لِبـُــــعْدهُمُ
فكلُّ رحبٍ فسيحٍ ضيقٌ حـــــرِجُ
أستودعُ اللهَ عَيْشَاً مَرَّ لِيْ بِـــكُـمُ
يرتاحُ قلبي لِذِكْرَاهُ ويَبْتَهِـــــجُ
ما راقَنِي بَعْدَكُمٌ شيءٌ سُــرِرْتُ بِهِ
فكلُّ مُسْتَحْسَنٍ في ناظري سَمِـــجُ
فمن شعره مما أورد له ابن الفوطي :
وفى لي دمعي يوم بانوا بوعده فأجريته حتى غرقت بمده [ ص: 51 ] ولو لم يخالطه دم غال لونه
لما مال حادي الركب عن قصد ورده أأحبابنا هل ذلك العيش راجع
بمقتبل غض الصبى مستجده زمانا قضيناه انتهابا وكلنا
يجر إلى اللذات فاضل برده وإن على الماء الذي يردونه
غزال كجلد الماء رقة جلده يغار ضياء البدر من نور وجهه
ويخجل غصن البان من لين قده
وله :
حيا الحيا وطنا بإربل دارسا أخنت عليه حوادث الأيام
أقوت مرابعه وأوحش أنسه وخلت مراتعه من الآرام
عني الشتات بأهله فتفرقوا أيدي سبا في غير دار مقام
إن يمس قد لعبت به أيدي البلى عافي المعاهد دارس الأعلام
فلكم قضيت به لبانات الصبى مع فتية شم الأنوف كرام
قال ابن خلكان كان شرف الدين جليل القدر ، واسع الكرم ، مبادرا إلى زيارة من يقدم ، متقربا إلى قلبه ، وكان جم الفضائل ، عارفا بعدة فنون ، منها الحديث وفنونه وأسماؤه وكان ماهرا في الآداب والنحو واللغة والشعر وأيام العرب ، بارعا في حساب الديوان . صنف شرحا لديوان المتنبي وأبي تمام في عشر مجلدات ، وله في أبيات " المفصل " مجلدان . سمعت منه كثيرا ، وبقراءته ، وله ديوان شعر أجاد فيه .
قال ابن الشعار في " قلائد الجمان " كان الصاحب مع فضائله [ ص: 52 ] محافظا على عمل الخير والصلاح ، مواظبا على العبادة ، كثير الصوم ، دائم الذكر متتابع الصدقات .
قال ابن خلكان ولي الوزارة في أول سنة تسع وعشرين ، فلما صارت إربل للمستنصر بالله لزم بيته ، واقتنى من نفيس الكتب شيئا كثيرا ، خرج من داره مرة ليلا فضربه رجل بسكين في عضده فقمطها الجرائحي بلفائف وسلم ، فكتب إلى الملك مظفر الدين :
يا أيها الملك الذي سطواته من فعلها يتعجب المريخ
آيات جودك محكم تنزيلها لا ناسخ فيها ولا منسوخ
أشكو إليك وما بليت بمثلها شنعاء ذكر حديثها تاريخ
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي فيما ادعيت القمط والتمريخ
توفي الصاحب في خامس المحرم سنة سبع وثلاثين وستمائة .
وفيها توفي قاضي دمشق شمس الدين أبو العباس أحمد بن الخليل الخويي الشافعي ، والصفي أحمد بن أبي اليسر شاكر التنوخي ، وأبو العباس أحمد بن الرومية الإشبيلي النباتي ، وإسماعيل بن محمد بن يحيى البغدادي المؤدب ، وعلاء الدين أبو سعد ثابت بن محمد بن أحمد بن الخجندي الأصبهاني الذي حضر " البخاري " على أبي الوقت ، وحسين بن يوسف الصنهاجي الشاطبي نظام الدين الناسخ ، وأمين الدين سالم بن [ ص: 53 ] الحسن بن صصرى .
وصاحب حمص شيركوه ، والقاضي عبد الحميد بن عبد الرشيد الهمذاني ، وعبد الرحيم بن يوسف بن الطفيل ، وأبو محمد عبد العزيز بن دلف المقرئ الناسخ ، وأبو الحسن علي بن أحمد الحراني بحماة ، وشمس الدين محمد بن الحسن بن الكريم الكاتب والحافظ بن الدبيثي ، ومحمد بن طرخان السلمي ، ومحمد بن أبي المعالي بن صابر ، والرشيد محمد بن عبد الكريم بن الهادي محتسب دمشق ، والصاحب ضياء الدين نصر الله بن الأثير .
المصادر:
الموسوعة العربية
إسلام ويب
ـ ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس (دار الثقافة، بيروت 1986).
ـ ابن الفوطي، الحوادث الجامعة (دار الفكر الحديث، بيروت 1987 م).
ـ السيوطي، بغية الوعاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (مكتبة البابي الحلبي، القاهرة 1964).
ـ الذهبي، العبر، تحقيق فؤاد سيد (وزارة الإعلام، الكويت 1984).
تعليقات
إرسال تعليق