محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يؤمن المسلمون بأنه رسول الله للبشرية ليعيدهم إلى توحيد الله وعبادته، ويؤمنون بأنه خاتم النبيين والمرسلين، وأنه أشرف المخلوقات وسيّد البشر، كما يعتقدون فيه العصمة. عند ذكر اسمه، يُلحِق المسلمون عبارة «صلى الله عليه وسلم» مع إضافة «وآله» و«وصحبه» في بعض الأحيان، لِمَا جاء في القرآن والسنة النبوية مما يحثهم على الصلاة عليه. اعتبره الكاتب اليهودي مايكل هارت أعظم الشخصيّات أثرًا في تاريخ الإنسانية كلّها باعتباره «الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي». ترك محمد أثرًا كبيرًا في نفوس المسلمين، حتى كثُرت مظاهر محبّتهم وتعظيمهم له، من ذلك الاحتفال بمولده، واتباعهم لأمره وأسلوب حياته وعباداته، وقيامهم بحفظ أقواله وأفعاله وصفاته وجمع ذلك في كتب عُرفت بكتب السّيرة والحديث النبوي.
ولد في مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل قبل ثلاث وخمسين سنة من الهجرة (هجرته من مكة إلى المدينة)، ما يوافق سنة 570 أو 571 ميلاديًا و52 ق هـ. ولد يتيم الأب وفقد أمه في سنّ مبكرة فتربى في كنف جده عبد المطلب ثم من بعده عمه أبي طالب حيث ترعرع، وكان في تلك الفترة يعمل بالرعي ثم بالتجارة. تزوج في سنِّ الخامسة والعشرين من خديجة بنت خويلد وأنجب منها كل أولاده باستثناء إبراهيم. كان قبل الإسلام يرفض عبادة الأوثان والممارسات الوثنية التي كانت منتشرة في مكة. ويؤمن المسلمون أن الوحي نزل عليه وكُلّف بالرسالة وهو ذو أربعين سنة، أمر بالدعوة سرًا لثلاث سنوات، قضى بعدهنّ عشر سنوات أُخَر في مكة مجاهرًا بدعوة أهلها وكل من يرد إليها من التجار والحجيج وغيرهم. هاجر إلى المدينة المنورة والمسماة يثرب آنذاك عام 622م وهو في الثالثة والخمسين من عمره بعد أن تآمر عليه سادات قريش ممن عارضوا دعوته وسعوا إلى قتله، فعاش فيها عشر سنين أُخر داعيًا إلى الإسلام، وأسس بها نواة الحضارة الإسلامية، التي توسعت لاحقًا وشملت مكة وكل المدن والقبائل العربية، حيث وحَّد العرب لأول مرة على ديانة توحيدية ودولة موحدة، ودعا لنبذ العنصرية والعصبية القبلية.
كون النبي محمد شخصية لها تأثير كبير في التاريخ، فإن حياته وأعماله وأفكاره قد تم مناقشتها على نطاق واسع من جانب أنصاره وخصومه على مر القرون. كما اهتم المسلمون قديمًا وحديثًا بسيرة النبي محمد باعتبارها المنهج العملي للإسلام، فألف علماء الإسلام مؤلفات عديدة وجامعة في سيرته، ودوّنوا كل ما يتعلق بذلك.
يُعتبر القرآن مصدرًا أساسيًا لمعرفة سيرة النبي محمد، كونه أقدم وأوثق مصادر السيرة النبوية، لأنه يرجع إلى عصر النبي محمد نفسه. كما يتفق المسلمون كافة على مدى العصور على نسخة واحدة منه رغم اختلاف الفرق الإسلامية. وإن كان القرآن لم يتناول كل سيرة النبي محمد باستفاضة، إلا أنه ذكر فيه إشارات كثيرة إلى سيرته إما بصريح العبارة، أو بالإشارة، أو بالتضمين، فذُكر فيه بعضًا من شمائله، ودلائل نبوته، وأخلاقه وخصائصه، وعن حالته النفسية، وذُكر فيه أيضًا شيئًا عن غزواته. فقد ورد في القرآن ما يقارب 280 آية في الغزوات (وهي تساوي نسبة 4,65% من القرآن) جاء بعضها بالإشارة، وبعضها تصريحًا، كغزوات بدر، وأحد، والخندق، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فمثلاً اشتملت سورة الأحزاب على تفاصيل من سيرة محمد مع أزواجه وأصحابه كما تضمنت تفاصيل كثيرة عن غزوة الأحزاب.
قد شغلت السيرة النبوية حيزًا كبيرًا من كتب الحديث، وكلّ من ألّف في الحديث كان يُخصص أقسامًا وأبوابًا وكتبًا خاصة بما يتعلق بحياة محمد، ودعوته، ومغازيه، وحتى عن صحابته، غير أن تلك الأقسام لم تكن مرتبة ترتيبًا زمنيًا. ثم إن مقصد مؤلفي هذه الكتب كان منصَبًّا على جمع أقوال محمد وأفعاله وتقريراته وأحكامه، وكانت مشاهد السيرة تأتي في ثناياها ليستدلوا بها على الحكم الشرعي، لذا جاءت بدون تفصيل بل كانت تقتصر على بعض تلك الأخبار وفق منهج أهل الحديث في الرواية.
اتفق علماء المسلمين على أن أشهر وأقدم كتب الحديث التي زخرت بأخبار السيرة النبوية هو موطأ مالك، حيث أورد جملة من الأحاديث تتعلق بسيرة محمد وأوصافه وذكر ما يتعلق بالجهاد. وكذلك فعل البخاري في صحيحه، حيث ذكر جوانب من حياة محمد قبل البعثة وبعدها، وخصص كتابًا في المغازي وآخر في الجهاد، كما ذكر كثيرًا من خصائصه، ودلائل معجزاته، بما يوازي عُشْر صحيحه. وهكذا فعل مسلم بن الحجاج في صحيحه، حيث اشتمل على جزء كبير من سيرته وفضائله، وجهاده. وكان كلّ من جاء بعدهم اتبع نفس النهج مع اختلاف في التبويب والترتيب، كأصحاب السنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد بن حنبل.
بدأت كتابة السيرة النبوية والمغازي في مرحلة متأخرة عن كتابة الأحاديث النبوية، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته شفاهًا، فكان أول من اهتم بكتابة السيرة عمومًا هو عروة بن الزبير (توفي 92 هـ) ثم أبان بن عثمان (توفي 105 هـ) ثم وهب بن منبه (توفي 110 هـ) ثم شرحبيل بن سعد (توفي 123 هـ) ثم ابن شهاب الزهري (توفي 124 هـ)، غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف، فلم يصل إلينا منه شيء، إلا بقايا متناثرة روى بعضها الطبري. وفي الطبقة التي تلي هؤلاء، يأتي محمد بن اسحق (توفي 152 هـ) والذي اتفق الباحثون على أنّ ما كتبه يُعدّ أوثق ما كُتب في السيرة النبوية في ذلك العهد، ولكن كتابه "المغازي" لم يصل إلينا، فقام ابن هشام (توفي 218 هـ) فروى كتاب ابن إسحاق مهذبًا ملخصًا وهو المعروف بكتاب "سيرة ابن هشام". كما اعتمد الطبري (توفي 310 هـ) بشكل أساسي على أخبار رُويت عن ابن إسحاق في الجزء الخاص بالسيرة النبوية من كتابه تاريخ الطبري. مصدر آخر ظهر في وقت مبكر هو "المغازي" للواقدي (توفي 207 هـ)، والذي استفاد منه تلميذه ابن سعد البغدادي (توفي 230 هـ) في كتابه المسمى بـ "الطبقات الكبرى". الكثير من الباحثين تعاملوا مع هذه المصادر كمصدر صحيح، على الرغم من كون دقتها غير مؤكدة. لاحقًا عمل الباحثون على التمييز بين الأساطير والروايات الدسيسة والمكذوبة من جهة والروايات التاريخية البحتة من جهة أخرى.
تعدّ كتب الشمائل من المصادر الأساسية لمعرفة سيرة النبي محمد، وهي الكتب التي قصد أصحابها العناية بذكر أخلاق محمد، وعاداته وفضائله، وسلوكه في الليل والنهار، كما تناولت آدابه وصفاته الخَلْقية والخُلُقية. وموضوع الشمائل المحمدية اهتم به علماء المسلمين منذ القدم، وكان أحد أغراض كتب الحديث، ثم أفرده المحدّثون في كتب مستقلة، كان في مقدمتهم أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (توفي 200 هـ) في مؤلفه "صفة النبي" ثم أبو الحسن علي بن محمد المدائني (توفي 224 هـ) في كتابه "صفة النبي"، ثم كتاب "الشمائل المحمدية" للترمذي (توفي 279 هـ)، ثم داود بن علي الأصبهاني (توفي 270 هـ) في كتابه "الشمائل المحمدية"، ثم إسماعيل القاضي المالكي (توفي 282 هـ) في كتابه "الأخلاق النبوية"، كذلك أبو الحسن أحمد بن فارس اللغوي (توفي 295 هـ) في كتابه "أخلاق النبي". ثم جاء بعدهم في القرون التالية خلق كثيرٌ، منهم القاضي عياض (توفي 544 هـ) في كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى".
أما كتب الدلائل فهي تلك الكتب التي حوت بحسب ما يراه المسلمون من الحجج والبراهين الدّآلة على صدق وصحّة نبوة محمد، وعلى شمول وعموم رسالته، بدلالات واضحة لا جدل فيها، وفيها الأدلة على معجزاته وظهور آياته، والردّ على من أنكرها من وجهة نظر المسلمين. وفي كتب السنة النبوية أبواب خُصصت لعلامات النبوة، كما فعل البخاري ومسلم وغيرهما. أما الكتب المخصصة لهذا الشأن فهي كثيرة جدًا أشهرها "دلائل النبوة" للبيهقي.
هناك كذلك أنواع أخرى من المصادر، مثل كتب تفسير القرآن وأسباب النزول، ذلك أن علماء المسلمين يعتمدون بشرح القرآن بشكل أساسي على تفسيرات القرون الإسلامية الأولى، بما في ذلك الآيات التي تتناول حياة محمد. ومن أمثلتها تفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير القرطبي. إضافة إلى كتب التاريخ التي تتناول التاريخ بشكل عام وتتطرق إلى السيرة النبوية كتاريخ الطبري وتاريخ ابن خلدون وغيرها. كذلك هناك مصادر غير عربية، منها اليونانية، ومن أقدمهم الكاتب ثيوفانس في القرن التاسع الميلادي. وهناك السريانية ومن أقدمهم كاتب القرن السابع جون بار بينكاي مع وجود خمسة كتبة آخرين لا تزيد فترة ذكرهم للنبي عن ثلاثين عام من وفاته.
من النّاحية السياسية، كانت شبه الجزيرة العربية مفككة، لا توحّدها دولة ولا تديرها حكومة، وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت، وطغت البداوة على المدن في تهامةوالحجاز، فكانت القبيلة هي الوحدة السياسية والاجتماعية. فكانت مكة تُدار من قبل الملأ في دار الندوة. والمدينة المنورة في حالة نزاع دائم بين الأوس والخزرج. أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الأردن والجولان فقد سمح الفرس والروم للدولتين بالنشوء لتكونا حاجزتين تصدان عنهما غزو القبائل العربية، وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م قبل البعثة المحمدية بثمانِ سنوات.
ومن النّاحية الاقتصادية، فقد كان بدو العرب يعتمدون على الرعي والتنقل لأماكن الماء، مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على الموارد. أما في المدن، فكان يقوم فيها النشاط التجاري والزراعي والصناعي،فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري، وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام، وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية. أما المدينة فكان يغلب عليها الزراعة حيث بساتين النخيل والأعناب والفواكه. واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري. أما الصناعة فقد عُرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية، وصناعة السيوف والرماح والنبال والدروع، كما قامت في المدن العربية حرف الحدادة والصياغة والدباغة، والغزل والنسيج. وكان العرب يعرفون أنواعًا من المعاملات المالية كالقراض والمضاربة والرهن.
من النّاحية الدينية كانت الوثنية تسود شبه جزيرة العرب بشكل غالب، حيث كانوا يعبدون آلهة يمثلونها في أصنام مصنوعة من الحجر والخشب بلغ عددها 360 صنمًا حول الكعبة تعبدها القبائل التي تؤم البيت للحج وتقدم لها القرابين والنذر. كان من أقدمها وأكبرها "هٌبل" (لكنانة وقريش)، و"مَناة" (لهُذَيْل وخزاعة)، و"الّلات" (لثقيف)، و"العُزَّى" (لقريش وكنانة). ومع ذلك بقي لديهم شعائر من بقايا دين إبراهيم مثل تعظيم الكعبة، والطواف بها، والحج، والعمرة. وكان هناك أفراد من الموحدين على ملة إبراهيم وإسماعيل كانوا موجودين في مكة عرفوا بالأحناف. تواجدت أيضًا ديانات بشكل محدود مثل اليهودية في اليمن والمدينة، والنصرانية في نجران والحيرة ودومة الجندل وأطراف الشام. كذلك وُجد انتشار محدود للمجوسية قادمًا من بلاد الفرس.
هو «أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (واسمه شيبة) بن هاشم (واسمه عمرو) بن عبد مناف (واسمه المغيرة) بن قصي (واسمه زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (واسمه عامر) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان». هذا هو المتفق عليه من نسبه، أما ما فوقه ففيه اختلاف كثير، غير أنه ثبت أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم.
ولم يكن فرعٌ من قريش إلا كان لمحمد فيهم قرابة. ويعتقد المسلمون بأن الله قد اصطفى نبيَّهم محمدًا واختاره من أزكى القبائل وأفضل البطون وأطهر الأصلاب، حيث قال «خرجتُ من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمّي»، وقال أيضًا «إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»، وقال أيضا «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»، وقال «إنَّ الله تعالى خلق الخلق، فجعلني في خير فِرَقِهم، وخير الفرقتين، ثم تخيَّر القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم تخيَّر البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرُهم نفسًا، وخيرُهم بيتًا»
أبوه: هو عبد الله بن عبد المطلب، أمّه "فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب". كان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفّهم وأحبّهم إليه،وأصغرهم من بين أولاده، وهو الذبيح، الذي فداه أبوه بمائة من الإبل.
أمّه: هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أمّها "برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب". كانت آمنة تُعد يومئذٍ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وكان أبوها سيّد بني زهرة نسبًا وشرفًا.
أعمامه وعمّاته: هم العباس، وحمزة، والزبير، والمقوَّم، والحارث، والغيداق، وقُثم، وعبد الكعبة، وجَحْل (واسمه المغيرة)، وأبو لهب (واسمه عبد العزَّى)، وأبو طالب (واسمه عبد مناف)، وضرار. وأما عمّاته، فهنّ عاتكة، وأميمة، وأروى، وأم حكيم (وهي البيضاء)، وبرّة، وصفيّة. ولم يسلم منهم إلا حمزة والعباس وصفية، واختُلف في عاتكة وأروى.
أخواله وخالاته: لم يكن لمحمد أخوال وخالات إلا "عبد يغوث بن وهب"، وكان محمد يقول عن سعد بن أبي وقاص «هذا خالي فليرني امرؤ خاله»،وذلك لأجل أن سعدًا كان من بني زهرة وكانت أم النبي أيضًا منهم.
لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب ثمانية عشرة أو خمسة وعشرين سنة، زوّجه أبوه آمنة بنت وهب من عمّها "وهيب بن عبد مناف" وقد كانت تعيش عنده. فبنى بها عبد الله في مكة فحملت بمحمد، وكانت آمنة تحدّث أنّها حين حملت به أُتِيَت فقيل لها «إنّك قد حملت بسيّد هذه الأمّة، فإذا وقعَ على الأرض فقولي "أعيذه بالواحد من شرِّ كل حاسد"، ثم سمّيه "محمدًا"». ثم لم يلبث أبوه عبد الله حتى خرج إلى الشام للتجارة، فمرّ بالمدينة فأقام عندهم مريضًا شهرًا ثم تُوفي عن عمر خمسة وعشرين عامًا، ودُفن في "دار النابغة" (وهو رجل من بني عدي بن النجار)، وكانت آمنة يومئذٍ حامل بمحمد لشهرين (رأي الجمهور)، تاركًا وراءه خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها "بركة" وكنيتها أم أيمن. وبعد أن بقي محمد في بطن أمه تسعة أشهر كملّاً، وُلد في مكة في شعب أبي طالب، في الدار التي صارت تُعرف بدار "ابن يوسف". وتولّت ولادته "الشِّفاء" أم عبد الرحمن بن عوف.
وقد كان مولده يوم الإثنين، 8 ربيع الأول، أو 12 ربيع الأول (المشهور عند أهل السنة)،أو 17 ربيع الأول (المشهور عند الشيعة)، من عام الفيل، بعدما حاول أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة، قيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يومًا، وقيل بخمسين يومًا (وهو المشهور)، ويوافق ذلك 20 أبريل أو 22 أبريل سنة 571 م على الأصحّ (أو 570 وحتى 568 أو 569 حسب بعض الدراسات).
ويُروى بأن محمدًا قد وُلد مختونًا مسرورًا (مقطوع السرّة)، بينما هناك روايات أخرى تؤيد أن عبد المطلب ختنه يوم سابعه وجعل له مأدبة. وكانت أمّه تحدّث أنّها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم، ولمّا وضعته وقع إلى الأرض مستقبل القبلة رافعًا رأسه إلى السماء، مقبوضة أصابع يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبّح بها.
وأنّها رأت حين ولدته كأنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام. قالت أمّ عثمان بن أبي العاص «حضرتُ ولادة رسول الله، فرأيت البيتَ حين وضع قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننتُ أنها ستقعَ عليّ». وبعدما ولدته أرسلت إلى عبد المطلب تبشّره بحفيده، ففرح به فرحًا شديدًا، ودخل به الكعبة شاكرًا الله، وقال «ليكوننّ لابني هذا شأن»، واختار له اسم "محمّد" ولم تكن العرب تسمي به آنذاك، إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد وبقرب زمانه وأنه يُبعث في تهامة فيكون ولدًا لهم. وقد علمت اليهود آنذاك بولادة محمد، يقول حسان بن ثابت «والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به».
كان أوّل من أرضعته بعد رضاعه من أمّه بأسبوع ثويبة مولاة أبي لهب، كان قد أعتقها، فأرضعت محمدًا لأيام بلبن ابن لها يُقال له "مسروح"، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة المخزومي، وقيل بل أرضعتهما معه.ويروي البخاري أنه «لما مات أبو لهب رآه بعض أهله بمنامه، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم (أي لم ألقَ بعدكم خيرًا) غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة». وكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، وكان يقول لها «يا أُمّه»، وكان إذا نظر إليها قال «هذه بقية أهل بيتي».
كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبنَ أطفالًا يرضعنهم فكان محمد من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب لتُرضعه مع ابنها "عبد الله" في بادية بني سعد، وزوجها هو "الحارث بن عبد العزى"، وكان لهما ابنتان "أنيسة" و"حذافة" ولقبها الشيماء والتي كانت تحضن محمدًا مع أمّها إذا كان عندهم. وأجمع رواة السِّير أنَّ بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنةً مجدبةً، فلما جاء محمد إلى باديتهم عادت منازل حليمة مخضرّة وأغنامها ممتلئة الضرع. عاش محمد معها سنتين حتى الفطام وقد كانت حليمة تذهب به لأمه كل بضعة أشهر لزيارتها، فلما انتهت السنتين عادت به حليمة إلى أمّه لتقنعها بتمديد حضانته خوفًا من وباء بمكة وقتها ولبركة رأتها من محمد، فوافقت آمنة. وعندما بلغ سن الرابعة، وقيل الخامسة، حدثت له حادثة شق الصدر والتي قد ورد في كتب السير تكرار مثيلها أكثر من مرة، والتي أنكرها الشيعة، وبعض المستشرقين أمثال نيكلسون، فأعادته حليمة إلى أمه. رَوى مسلم تلك الحادثة فقال:
محمد أن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (جمعه وضم بعضه إلى بعض) ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (مرضعته) فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
محمد
تُوفيت أمّه، وهو ابن ست سنوات أثناء عودتهم من زيارة لأخواله من بني عدي بن النجار، بمكان يسمى الأبواء، فحضنته أم أيمن، وحملته إلى جدّه عبد المطلب ليكفله بعد ذلك ليعيش معه بين أولاده. وفي السنة الثامنة من عمره، توفي جده عبد المطلب، بعد أن اختار له أبا طالب ليكفله، ويقوم بشؤونه.
شبابه
لم يكن عمّه أبو طالب ذا مال وفير، فاشتغل محمد برعي الغنم يأخذ عليه أجرًا مساعدةً منه لعمّه، قال «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط (أجزاء من الدراهم والدنانير) لأهل مكة». بينما أنكر الشيعة خبر رعيه الغنم. وفي الثانية عشر من عمره، سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام للتجارة، فلما نزلوا "بصرى" في الشام مرّوا على راهب اسمه "بحيرى"، وكان عالمًا بالإنجيل، فجعل ينظر إلى محمد ويتأمّله، ثم قال لأبي طالب «ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فوالله إن رأوه أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتًا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا وما ورثنا من آبائنا».
لُقّب محمد في مكة "بالأمين"، فكان الناس يودعون أماناتهم عنده. كما عُرف عنه أنه لم يسجد لصنم قطّ، رغم أنتشار ذلك في قريش، ولم يشارك شبابهم في لهوهم ولعبهم،وإنما كان يشارك كبرائهم في حربهم ومساعدتهم بعضًا بعضًا، ففي الرابعة عشر من عمره، وقيل في العشرين من عمره، حدثت حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان، وشارك محمد مع قريش ضمن بني كنانة لكون قريش من كنانة، وأما خصومهم قيس عيلان فكان منهم قبائل هوازن وغطفان وسليم وعدوان وفهم وغيرهم من القبائل القيسية، فشارك محمد فيها. وقال النبي محمد عن حرب الفجار:«قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت»، وقال عن حرب الفجار كذلك:«كنت أنبل على أعمامي»، وقال عنها أيضا:« ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا» . كما شارك قريشًا في "حلف الفضول" وهو ميثاق عقدته قريش في دار عبد الله بن جدعان بمكة، وتعاهدت فيه أن تحمي الضعفاء والمظلومين، قال محمد «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا، لو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ». ولمّا أصاب الكعبة سيل أدّى إلى تصدّع جدرانها، قرر أهل مكة تجديد بنائها، وفي أثناء ذلك اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول شخص يدخل عليهم، فلما دخل عليهم محمد وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة، قالوا «هذا الأمينُ، قد رَضينا بما يقضي بيننا»، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه.
كانت خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، فبلغها عن محمد ما بلغها من أمانته، فعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام متاجرًا وتعطيه أفضلَ ما كانت تعطي غيره من التجّار،فقبل وخرج ومعه غلامها "ميسرة"، فقدما الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يُقال له "نسطورا"،فاطلع الراهب إلى ميسرة وقال له «ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلا نبيّ»،وكان ميسرة إذا اشتد الحرّ يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. فلما أقبل عائدًا إلى مكة قدم على خديجة بمالها وقد ربحت ضعف ما كانت تربح. بعد ذلك عرضت خديجة عليه الزواج بواسطة صديقتها "نفيسة بنت منيّة"، فرضى بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فخرج معه عمّه حمزة بن عبد المطلب حتى خطبها من عمّها "عمرو بن أسد"، وقيل بل خطبها له أبو طالب. ثم تزوجها بعد أن أصدقها عشرين بكرة، وكان سنّه خمسًا وعشرين سنة وهي أربعين سنة، وقيل بل كانت خمسًا وعشرين سنة، أو ثمانية وعشرين سنة. وكانت خديجة أول امرأة تزوجها محمد ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت بعد ما بقيت معه خمسًا وعشرين سنة، عشرًا بعد المبعث وخمس عشرة قبله. وبحسب أهل السنة فإنه قد تزوج خديجة قبل محمد وهي بِكر "عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (وولدت له هند) ثم مات عنها فتزوجها "أبو هالة النباش بن زرارة" (وولدت له هند وهالة). بينما رفض الشيعة ذلك، وقالوا إنَّ محمدًا تزوجها بكرًا.
أنجب محمد من خديجة كل أولاده إلا إبراهيم. وحين تزوج خديجة، أعتق حاضنته أم أيمن فتزوجها "عبيد بن زيد من بني الحارث"، فولدت له أيمن، فصحب محمدًا حين بُعث وتوفي شهيدًا يوم حنين، وقيل يوم خيبر. وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لمحمد، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة، وتوفيت بعدما توفي محمّد بخمسة أشهر.
مبشرات على قرب مبعثه
يؤمن المسلمون بأن الله لم يبعث نبيًا إلا وأخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمدًا وهو حيّ ليؤمننّ به وينصرنّه، ويأمر قومه بذلك،وكان محمدٌ يقول «أنا دعوة إبراهيم، وكان آخر من بشّر بي عيسى بن مريم». وقد ورد في كتب السير بأن الأحبار من اليهود والكهّان من النصارى ومن العرب كانوا قد تحدّثوا بأمر النبي محمد قبل مبعثه لمّا تقارب زمانه، فأمّا الكهّان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع في السماء قبل أن تُحجَب عن ذلك برمي النجوم والشهب بمبعث النبي محمد، وأما الأحبار من اليهود والرهبان من المسيحيين فلِما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم أن يتبعوه وينصروه إذا بعث فيهم.
قال ابن عباس «كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلمّا التقوا هُزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت «اللهم إنا نسألك بحقّ محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم»، فكانوا إذا التَقَوا، دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبي كفروا به فأنزل الله وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ». ومما ورد في قصة إسلام سلمان الفارسي أنه قال له أحد الرهبان «قد أظلّ زمان نبي، مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهديّة ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل». وعن عامر بن ربيعة أنه قال: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول أنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل ثم من بني عبدالمطلب ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السّلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلمّ. قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإيّاك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون "هذا الدين وراءك" وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون "لم يبق نبي غيره"».
وقد كان محمد يرى قبل بعثته أمورًا، من ذلك ما قاله «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن»، وكان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال «السلام عليك يا رسول الله» يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث كذلك يرى ويسمع، حتى جاءه جبريل في غار حراء.
حياته بعد البعثة إلى الهجرة
لما بلغ محمد سنَّ الأربعين، اعتاد أن يخرج إلى غار حراء (طوله 2.16 م، وعرضه 0.945 م) في جبل النور على بعد نحو ميلين من مكة، وذلك في كل عام، فيأخذ معه الطعام والماء ليقيم فيه شهرًا بأكمله ليتعبد ويتأمّل. ويعتقد المسلمون بأنه في يوم الاثنين، 17 رمضان أو 24 رمضان، أو 21 رمضان، الموافق 10 أغسطس سنة 610م، أو 27 رجب (المشهور عند الشيعة)، نزل الوحي لأول مرّة على محمد وهو في غار حراء، تروي عائشة بنت أبي بكر قصة بدء الوحي، والتي أنكر الشيعة معظمَ ما جاء فيها:
محمد أول ما بدأ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه المَلك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقاريء. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زمّلوني زملّوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله : أوَمخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا
محمد
وبعد تلك الحادثة، فَتَر عنه الوحي مدة، قيل أنها ثلاث سنوات وقيل أقلّ من ذلك، ورجّح البوطي ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستةَ أشهر، حتى انتهت بنزول أوائل سورة المدثر. ثم بدأ الوحي ينزل ويتتابع مدة ثلاثة وعشرين عامًا حتى وفاته. فكان أول ما نزل من القرآن بعد أول سورة العلق، أول سورة القلم، والمدثر والمزمل والضحى والليل. وعن كيفية نزول الوحي عليه، كان يقول «أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، فهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة: «ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصِم عنه، وإنَّ جبينه ليتفصَّد عرقًا». وفي نفس تلك الفترة حدثت له حادثة شق الصدر للمرّة الثانية.
بداية الدعوة
يعتقد المسلمون بأن محمدًا بُعث للناس كافة، فقد قال عن نفسه «أنا رسولُ من أدركتُ حيًا، ومن يولد بعدي»، فبعد نزول آيات سورة المدثر، بدأ يدعو إلى الإسلام الكبيرَ والصغيرَ، والحر والعبد، والرجال والنساء، فكان أوّل النّاس إيمانًا به بحسب الرواية السنية زوجته خديجة بنت خويلد، ثمّ ابن عمّه علي بن أبي طالب،(وهو أول الناس إيمانًا بحسب الشيعة) وكان صبيًا يعيش في كفالة محمد معاونةً لأبي طالب، وهو يومئذٍ ابن عشر سنين، وقيل ثمان سنين، وقيل غير ذلك. ثم أسلم زيد بن حارثة مولى محمد ومتبنّاه قبل تحريم ذلك في الإسلام، فكان أول ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب، وفي رواية الزهري أن زيد بن حارثة كان أول الرجال إسلامًا. ثم أسلم صديقه المقرّب أبو بكر بن أبي قحافة، وقيل بل أسلم قبل علي بن أبي طالب، قال أبو حنيفة «بل هو أول من أسلم من الرجال، وعليًا أول من أسلم من الصبيان». ولمّا أسلم أبو بكر أظهر إسلامه فكان أول من أظهر الإسلام في مكة، وجعل يدعو إلى الإسلام من وثِقَ به من قومه ممن يجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. ويُروى أنّ أبا بكر رأى رؤيا قبل إسلامه، ذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم رآه قد تفرّق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فقصّها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن «النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه وتكون أسعد الناس به».
وكان محمد في بداية أمره يدعو إلى الإسلام مستخفيًا حذرًا من قريش مدة ثلاث سنين. وكان من أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، وكانت الصلاة ركعتين بالصباح وركعتين بالعشيّ، فكان محمد وأصحابه إذا حضرت الصّلاة ذهبوا في الشِّعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. وكان المسلمون الأوائل يلتقون بمحمد سرًا، ولما بلغوا ثلاثين رجلاً وامرأةً، اختار لهم محمد «دار الأرقم بن أبي الأرقم» عند جبل الصفا ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم. وبقوا فيها شهرًا،لحين ما بلغوا ما يقارب أربعين رجلاً وامرأةً، فنزل الوحي يكلف الرسول بإعلان الدعوة والجهر بها.
بعد مرور ثلاث سنوات من الدعوة سرًا، بدأ محمد بالدعوة جهرًا بعدما تلقّى أمرًا من الله بإظهار دينه، عن علي بن أبي طالب أنه قال: «لما نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» جمع رسول الله قرابته، فاجتمع له ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال علي: أنا». ويروي ابن عباس فيقول:
محمد لمّا أنزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» صعد رسول الله على الصّفا فقال: يا معشر قريش! فقالت قريش: مالك يا محمد؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متَّهم، وما جربنا عليك كذبًا قطّ. قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ، يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة! إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، وإنّي لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبًا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله. فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى «تبت يدا أبي لهب وتب»
وبحسب رواية عن الزهري فإن قريشًا لم تعادي محمدًا ودعوتَه إلا بعد أن نزلت آيات في ذم الأصنام وعبادتها، في حين يتمسك مفسرو القرآن وأغلب كتاب السيرة بأن المعارضة تزامنت مع بدء الدعوة الجهرية للإسلام. فاشتدت قريش في معاداتها لمحمد وأصحابه، وتصدّوا لمن يدخل في الإسلام بالتعذيب والضرب والجلد والكيّ، حتى مات منهم من مات تحت التعذيب، قال ابن مسعود «أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول الله ، وأبو بكر، وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية. فأما رسول الله وأبو بكر فمنعهما قومهما، وأما الآخرون فأُلبسوا أدرع الحديد ثم صُهروا في الشمس وجاء أبو جهل إلى سمية فطعنها بحربة فقتلها». حتى محمدًا قد ناله نصيب من عداوة قريش، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص «بينما رسول الله يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم». وقد كان من أشدّهم معاداة لمحمد وأصحابه أبو جهل، وأبو لهب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدي، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، حتى دعا على بعضهم قائلاً: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد».
سلكت قريش طريق المفاوضات لثني محمد عن دعوته، فأرسلت عتبة بن ربيعة أحد ساداتهم يفاوضه، فلما سمع القرآن عاد لقريش وقال «أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه بنبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم». ثم حاولوا مرات كثيرة بعرض المال عليه والزعامة، لكن محمدًا كان يرفض في كل مرة. ولما كان محمد في حصانة عمّه أبي طالب، أرسلوا وفودًا لعمّه يعاتبونه مرات عديدة، حتى صعُب على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، فقال لمحمد «يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا كذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك»، فظنّ محمد أن قد بَدَا لعمّه فيه، وأنه خاذله ومُسْلمه، وضعف عن القيام معه. فقال محمد كلمته المشهورة «يا عمّ، لو وُضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركتُ هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه». ثم بكى محمد، فقال له أبو طالب «يا ابن أخي، إمضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا».
المصادر:
دين الإسلام.
المولد النبوي.
المديح النبوي.
سيرة ابن هشام باب ولادة رسول الله وإرضاعه.
السيرة النبوية الصحيحة.
تعليقات
إرسال تعليق