تفاقمت ظاهرة الإرهاب في أعقاب ما أطلق عليه الربيع العربي؛ حيث استغلت الجماعات المتطرفة حالة الفوضى الأمنية التي سيطرت على بعض البلدان، وشرعت في استقطاب الشباب من أجل الانضمام إليها بدعاوى مختلفة، مستغلة بذلك مستويات البطالة المرتفعة بين المواطنين العرب، فضلًا عن الإحباط الذي أصاب العديد من الفئات الشعبية نتيجة تراجع المستوي المعيشي الذي ارتبط سلبًا بحالة الفوضى والتدهور الاقتصادى.
ويمكننا القول إن منحني نشاط التنظيمات المتطرفة شهد تقدمًا في بداية اندلاع الربيع العربي في العديد من البلدان، والتي يأتي في مقدمتها: ليبيا وسوريا، قبل أن تنجح ثورة 30 يونيو 2013 في تقويض إرهاب التنظيمات المتطرفة، بعدما تمت الإطاحة بتنظيم الإخوان من الحكم، الأمر الذي شكل دافعًا قويًا للتنظيمات الإرهابية التي كانت تعول على حكم الجماعة في تقديم دعم عسكري لها في كل مناطق الصراع بالشرق الأوسط.
ورغم قيام بعض الجيوش النظامية في المنطقة بشن حملات ممنهجة من أجل وأد التطرف، ومن ذلك إطلاق الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، عملية الكرامة في 2014 من أجل قتال التنظيمات الإسلاموية التي تمددت في ليبيا، كما استعان الجيش الوطني في اليمن بالتحالف العربي من أجل تحرير البلاد من تنظيم الحوثي الإرهابي الموالي لإيران في 2015، كما أطلقت مصر العملية العسكرية الشاملة «سيناء 2018» من أجل القضاء على بذور التطرف، ورغم كل هذه الجهود؛ فإن مجابهة الإرهاب لا يمكن أن تتم من خلال الأداة العسكرية فقط، ولابد من أداة أخري فكرية تعمل معها بالتوازي.
وبعبارة أخرى؛ إذا كانت الأداة العسكرية تنجح في هزيمة العناصر المتطرفة على أرض الواقع، فإن الأداة الفكرية تتركز مهمتها في اجتثاث التطرف فكريًّا، بما يعيق قدرات الإرهابيين على استقطاب عناصر جديدة، الأمر الذي يجعل من دور الأداة العسكرية في مواجهة الإرهاب أسهل، بعدما تم تجفيف أدوات التنظيمات المتطرفة الاستقطابية.
وعلى صعيد متصل، تتطلب مواجهة الإرهاب فكريًّا تبني حملات فكرية من أجل القضاء على الفكر المتطرف، ومن هنا جاء إنشاء مؤسسات قومية ودولية تعمل في هذا الغرض خصيصًا؛ فعلى سبيل المثال، أنشأت دار الإفتاء المصرية مرصدين أحدهما «مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة»، والآخر «مرصد الإسلاموفوبيا»؛ وعمدت دار الإفتاء من خلال المرصد الأول إلى تقديم أنواع الدعم كافة، بما فيها العملي والشرعي والفكري للأجهزة والمؤسسات الحكومية بهدف مواجهة التطرف فكريًّا ووأده في طور النمو، بما يشل قدرة التنظيمات المتطرفة على الحركة.
ويرتكز عمل «مرصد الفتاوى التكفيرية» على شقين، أحدهما يتعلق برصد الفكر المتطرف، ومصدره التراثي، سواء كان كتبًا أو مفكرين، والرد على التلاعب في النص، أو تأويله بما يحقق مصالح التنظيمات المتطرفة، أما الشق الثاني فهو إجرائي يتعلق برد فعل ديني من المؤسسة على هيئة فتاوى تُعيد تصحيح الفكرة، أو تطرح الرؤية الصحيحة المغايرة لرؤية التنظيمات المتطرفة، أو تبعث بتوصيات لأجهزة الدولة الحكومية من أجل وأد الفكرة المتطرفة.
أما «مرصد الإسلاموفوبيا»؛ فيختص برصد الظواهر والأفعال العنصرية التي تهاجم الدين الإسلامي فكريًّا، والمواطنين المسلمين عمليًّا، وتحاول دار الإفتاء من خلال هذا المرصد قطع الطريق على التنظيمات الإسلاموية التي تستغل «الإسلاموفوبيا» كوسيلة من أجل استقطاب المزيد من الشباب الذي يعاني من العنصرية في الغرب.
وتدرك دار الإفتاء المصرية أن حوادث «الإسلاموفوبيا»، وسوء معاملة المسلمين في البلاد الغربية، لعب دورًا رئيسيًا في دفع عدد من الشباب المسلم بأوروبا نحو الانضمام للتنظيمات المتطرفة، وقد أدرك تنظيم داعش هذه المفارقة، وعمل على تضخيمها، الأمر الذي مكّنه من استقطاب ما يقارب 5 آلاف أوروبي، وهو ما يعني أن مواجهة الإسلاموفوبيا تجفف المصادر البشرية للتنظيمات المتطرفة.
وإقليميًا؛ أدركت المملكة العربية السعودية أن دورها الديني يحتم عليها اتخاذ موقف ضد التطرف والإرهاب، فسعت من خلال المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال)، إلى مواجهة التطرف فكريًّا، وإعادة تأهيل المتطرفين قبل إعادة دمجهم في المجتمع مرة أخرى.
تأسس مركز «اعتدال» في عام 2015، ويعرف المركز نفسه على موقعه الإلكتروني بصفته المرجع الأول عالميًا في مكافحة الفكر المتطرف وتعزيز ثقافة الاعتدال، ويسعى لتحقيق ذلك من خلال رصد وتحليل الأفكار المتطرفة واستشرافها من أجل التصدي لها، ويتم ذلك من خلال تعاون المركز مع المؤسسات الدولية أو الدول الراغبة في مكافحة التطرف.
وفي أبو ظبي، أسس مجلس حكماء المسلمين، في عام 2014، بصفته هيئة دولية مستقلة تهدف إلى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ويتخذ المجلس من العاصمة الإماراتية مقرًا لنشاطاته، واضعًا توحيد المسلمين، وطفاء الحرائق التي تلتهم جسد الأمة الإسلامية هدفًا له .
ولم يغب الأزهر عن أزمة مواجهة الفكر المتطرف؛ فقد أسس في عام 2015 مرصدًا لمكافحة التطرف، يعمل بـ11 لغة، كما أطلق مؤخرًا في إطار خطته لتفنيد أفكار التيارات المتشددة المتطرفة والرد على الفتاوى التكفيرية، حملة دعوية بعنوان: «فرق الوعظ.. ومجالس الفتاوى المصغرة»، وهي عبارة عن قوافل دعوية لتوعية المواطنين الجالسين على المقاهي بمخاطر الإرهاب والفكر المتطرف بصفة عامة .
وفي السياق ذاته، منعت وزارة الأوقاف المصرية غير الأزهريين من الصعود إلى المنابر، إلا بعد الحصول على تصريح خطابة، كما قصر الأزهر الشريف الفتوى على القنوات الفضائية على أعداد معينة من العلماء الأزهريين، بهدف قطع الطريق على بعض التنظيمات التي تستغل المنصات الإعلامية للترويج لفكرها المتطرف.
وفي النهاية، يمكننا القول أن المواجهة الفكرية للتنظيمات المتطرفة يجب ألَّا تكون بمعزل عن المواجهة العسكرية، بل إن تلازمهما يجعل من سياسات مواجهة الإرهاب أكثر فاعلية.
المصادر
المرجع
تعليقات
إرسال تعليق